تجليات النزوح، في أدب الصورة
كتابة مظفر رمضان
تسببت بداية الحرب في إعادة تشكيل المشهدين المفاهيمي والسياسي للفنانين الشباب، وخاصة أولئك الذين كانوا يقيمون في الخرطوم أو كانت هذه المدينة موقعًا لاستوديوهاتهم. وجد العديد منهم أنفسهم مضطرين للفرار، سواء داخل السودان أو إلى خارج حدوده، في محاولة للحفاظ على مساعيهم الإبداعية وسط ظروف محفوفة بالمخاطر. يُعتبر التركيز على سكان الخرطوم أمرًا محوريًا، حيث دفعهم الصراع المستمر فجأة إلى زوبعة النزوح. يعتبر النزوح فعلًا سياسيًا من “الإكراه”، مما يترك الأفراد تحت رحمة الضرورات، حيث تتوقف خيارات بقائهم على الظروف السياسية والقانونية والأمنية المتقلبة للأطراف المتنازعة، وكذلك تلك التي تؤثر عليها طبيعة الصراع، مثل الدول المجاورة للسودان.
وضعت هذه الوضعية “فنان الخرطوم” في دور إجباري يفرض عليه التعامل مع المواضيع السياسية في مساعيه الفنية، مناورا خلال تعقيدات حقوق الإنسان والشرعية والمواقف الأخلاقية وسط الصراع السياسي. لم يكن هذا التحول نحو الخطاب السياسي مجرد ضرورة للبقاء بالنسبة للفنان أو الفرد النازح، بل هو أيضًا اعتراف بالسلطة الجوهرية التي يتمتع بها الفنانون لاستفزاز التأملات النقدية حول الأخلاق الإنسانية. في الوقت نفسه، يُعتبر وسيلة أصيلة للغاية لتوثيق التجارب الإنسانية، خالية من تحيزات أيديولوجيات الأنظمة السياسية.
تتردد آثار التهجير بعمق في التعبيرات الفنية لأولئك الذين تم اقتلاعهم من الخرطوم، والذين استمروا في مساعيهم الإبداعية بعد النزاع، بعد 15 أبريل 2023. خذ، على سبيل المثال، ريم الجعيلي، التي عانت من التهجير إلى جمهورية مصر. كانت مشغولة بفكرة الحدود بين بلدين يتشاركان نفس قطعة الأرض، مع وجود حدود جغرافية “تخيلية” تختلف بسبب ادعاءات السيادة الوطنية. في مقال نُشر في 17 يوليو 2023 على موقع “خط 30”، تقول: “بين الحدود السودانية والمصرية يمتد شريط من الصحراء يبدو معلقًا في الزمن، حيث تتلاشى اللحظات وسط خلفية من عدم اليقين.“ إن المساحة الشاسعة بين هذه المعابر دفعتها للتفكير في المعضلات الأخلاقية والوجودية عندما يُختزل الأفراد إلى مجرد إحصائيات أو مستندات بيد المكايدات السياسية.” وتقول ريم بشكل مؤثر: “تولد إنسانًا، لكنك تُختزل إلى رقم على جواز سفر.” تُبرز هذه التسمية الرقمية كيف تُجرد الأفراد من حقوقهم وحرياتهم الفطرية، مما يخضعهم لمزاج مصالح الدولة. في هذا السياق، يصبح الفرد مجرد وعاء لأجندة الدولة، خالٍ من الوكالة أو الاستقلالية.
تدفع هذه المعضلة الرسام حتماً إلى قلب الجدل الإيديولوجي. يُصبح إعادة تقييم الوضع الراهن وإعادة صياغة السرد، سواء من خلال العدسات الجمالية أو الخيالية، وسيلة لاستعادة مساحة من “التحرر الذهني” — حرية تتجاوز القيود الجسدية. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر شهادة على التجربة الإنسانية الجماعية في أوقات الاضطراب، حيث تلتقط النضال العالمي ورحلة الفنان داخل هذه الصراعات.
تظهر تجربة الفنان المغيرة عبدالباقي في معرضه “ناجون” في خُلال غاليري في بورتسودان مثالًا آخر على هذه الظاهرة. المغيرة، الذي كان مقيمًا في الخرطوم، وجد نفسه متورطًا في الصراع منذ بدايته، ونجا بشكل معجزي من عدة حوادث إطلاق نار مباشرة، وانتهى به المطاف كلاجئ من الخرطوم إلى بورتسودان في شرق السودان. في مقدمة معرضه، الذي افتتح في 7 أكتوبر 2023، يقول:
عدسة الحرب تلوّن كل شيء أراه الآن، دون أن تترك أي جانب غير متأثر، حتى أنا نفسي. يواصل طيف الصراع ملاحقتي (…) هناك غياب واضح للإنسانية، واقع أتعامل معه يوميًا. أنا معذب بأسئلة لا أجد لها إجابات—هل تعبر بقاؤنا حقًا عن البقاء في أنقى صوره؟
بهذا المعنى، يبرز مفهوم العلاج بالفن كوسيلة حيوية للمقاومة ضد تداعيات وآثار الحرب. في جوهره، يصبح من الضروري مواجهة الأزمات السياسية وحقوق الإنسان المتعلقة بالذات، من خلال استخدام الفن كأداة سياسية غير عنيفة تهدف إلى معالجة القضايا الإنسانية الأساسية. فالفن، بوجوده الحتمي ضمن الموارد المتاحة في أوقات الحرب العصيبة، يمثل أداة حاسمة للتعامل مع وتخفيف التأثيرات العميقة لهذه الظروف.
يتجلى هذا بوضوح في الأعمال الفنية المعروضة في معرض “الناجون” للفنان المغيرة عبد الباقي. من خلال دراسة الجدول الزمني لعملية خلق هذه الأعمال، نجد أن المغيرة أبدع قطعتين أثناء إقامته في أم درمان قبل مغادرته الخرطوم، بعنوان “الخرطوم” و”الجنينة”. باستخدام أقلام حبر جاف على الكرتون—وهي مادة كانت متاحة بسهولة في تلك الظروف—تجسد هذه الأعمال انعكاسات مؤثرة على حقائق الحرب. في جلسة مناقشة حول المعرض، كشف الموجرة أنه قضى أيامًا منغمسًا في عملية الإبداع، متأملًا تداعيات الصراع ومفكرًا في الردود المحتملة. كان فعل الإبداع بمثابة تفريغ عاطفي ووسيلة للتعبير؛ حيث كان يرسم على سطح الكرتون، متخللًا الصور بأرقام وتواريخ وكلمات تستحضر الأحداث التي كانت تتكشف خلال تلك الفترة من الحرب. هذا المسار، في جوهره، يجسد مفهوم العلاج بالفن، قبل حتى أن يتم عرض هذه الأعمال بشكل رسمي في المعرض.
العامل الحاسم هنا هو كيف يؤثر وضع الأداة على تشكيل الصورة. في لوحة “الخرطوم” التي نُفِّذت على كرتون مثقوب، تم استخدام الثقب المركزي لتجسيد “الفراغ المفاهيمي” لمدينة الخرطوم، الفراغ الذي ابتلع المدينة. وبالمثل، في سلسلة “الناجون”، وبسبب نقص مواد الرسم، استخدم المساحات البيضاء من الورق، مكونًا تركيبات جزئية على القماش. اعتمد تقنية استخدام الخطوط الملونة مع لوحة ألوان محدودة لتصوير شخصيات ومشاهد بسيطة من تجاربه مع النزوح. هذا النهج في التصوير والتقنية يمثل انحرافًا عن أسلوب الموجرة السابق، حيث كان يملأ كل بوصة من القماش بالألوان وضربات الفرشاة الكثيفة.
ما أود أن أؤكد عليه هو أن توفر الأدوات يؤثر بشكل كبير على شكل العمل الفني النهائي والنتائج الفنية التي يمكن للفنان تحقيقها.
هل ستفتح الحرب في الخرطوم باباً جديداً للتجريب للفنانين، تجريباً على مستوى الأدوات وطبيعة المواضيع؟ هل سيكون لهم دور جديد في ما يتعلق بالفكر السياسي السوداني في ضوء ما ستكون عليه الأوضاع الإنسانية والقانونية والأخلاقية؟ وهل سيكون لهم دور في التأثير على السياق الثقافي لخدمة تطلعاتهم ورؤاهم؟
في تقديري، هناك تحول يحدث في فكر الفنانين السودانيين ونهجهم. فمنذ بداية حركة ديسمبر 2018 والأحداث التي تلتها، كانوا في طليعة العمل السياسي والدعوة إلى التغيير، ولا يزالون كذلك، حتى وإن فرضت الحرب واقعاً آخر على طبيعة ممارساتهم.
مظفر رمضان
خلال غاليري، بورتسودان
اكتوبر 2023