
كتابة: روان حسن الزين
زياد عاصي الرحباني، الحالة اللبنانية التي سنحاول في هذا المقال سرد بعض مشاهد موسيقاه وحواراته لمحاولة فهم نظرته للحياة.
“Musical attempts by Ziad Alrahbani” هي الجملة المذكورة في أرشيف بدايات تسجيلاته الموسيقية. محاولات هي محتوى هذا المقال، وأول محاولة هي لتحليل كيف نظر زياد الى الفقر والسياسة وكيف ربط بينهما بالحب، فنجد في معظم ألحانه مرجعية للرومانسية. ولربما كان الغرام في نظره مبعثاً للحياة أو نقطة محورية منها واليها وفي طريقها الحرب والفساد والتدين.
الواقع السياسي والحلم الرومانسي
ابن الرحابنة يذكر في بداية تسجيل “مربى الدلال”، الأغنية التي تحدث فيها عن تجربته في الزواج من دلال التي كانت من أسرة ثرية، وفي أغنيته ينعكس اثر الحرب والبعد المكاني فكلاهما يعيش بجهة مختلفة من بيروت (وجهان للحرب بين بيروت الشرقية والغربية)، ومن ثم توالت احداث الحرب الأهلية بصورة متسارعة وبوتيرة عنيفة، علاقات إنسانية بين الحرب والفساد تبدو كحلم غير مكتمل، حدث يصعب تصديقه. فنجد زياد يسرد سندا لهذا الواقع الأشبه بخيال مأساوي : (ولقد فيطيب لي بأن هذه الواقعة وقعت فهي اذن واقعية وبالتالي فقد تم تلحين هذا اللحن بعد أن وقعت هذه الواقعة وكان ذلك في العام 1975م).
:مربى الدلال
قلي شو عندك وين رسمالك
قلتلو بتعرف والله يا خال
حبي رأسمالي وهياني قبالك
لا هدية جايب ولا أموال
ورح قولك دغري … أحوالي ما بتغري
ورثوني المكنسة وطلعت زبال
مشهد أول : مقاربة بين السيمفونية الخيالية لبيرليوز وزياد الرحباني
(Berlioz’s Symphonie Fantastique )
أراد بيرليوز أن تكون مقطوعته عودة للحياة, محاولة أخرى للحلم, وفي لحنه مسارات للتعبير عن أثر الدين والرومانسية والمخدرات.
“Expressive aspects on the effect of religion, exotic romanticism and drugs”.
ومن هنا يمكننا عقد سجال عبر الزمان والمكان. فعلى سبيل المثال الحركة الرابعة لمقطوعة بيرليوز
“Execution post-revolutionary France”
، هي نفسها “الله يساعد الله يعين” لزياد الرحباني. كلا مساري الموسيقى تحدثا عن تسيير الإرادة ومنخفضات اليأس، وفي اخر دقائق من “الله يساعد الله يعين” منزلق فجائي يحمل تعزية دينية ممتزجة ببعض السخرية الشيطانية, وعلى نفس النسق نجد الحركة الخامسة لسيمفونية بيرليوز ” Dream of the witches sabbath “، خديعة موسيقية يندهك فيها تارة لحن الشيطان ومن على البعد أجراس الكنيسة. استمع الى “الله يساعد” وعد مجددا ل”ليلة الساحرات” في ختام مقطوعة بيرليوز، سترى التاريخ يسرد ذات اللحن بين باريس القرن التاسع عشر وبيروت القرن الواحد وعشرين.
(Diabolical religious rhythm)
The mass of the dead … Berlioz’s fourth movement
هي نفسها :
الله يساعد الله يعين الشرايية على البياعيين
ما العالم كلها شرايية …زياد الرحباني
***
A return to life – Retour a la vie …
Opium dreams…the drug piece – “Berlioz’s symphony fantastique”
1832 Harriet Smithson as portrayed in Berlioz’s first night symphony : ‘‘passionate character.. Protestations of love…her nervous system and poetic imagination’’
سلام لإلك من المنطقة الغربية لإلك انتي خاصة
عندك ضجر طويل عم يحفر فيكي وانت منشآن هيك معودة تاخدي حبوب للأعصاب
وهالحبوب ما عادت تنفعك لأنها فاتت بدمك مثل الضجر الطويل
***
‘Harriet Smithson felt as if she sat in adream…her nervous system and poetic imagination …ambiguous shuttered remarks and adoration, mingled joy and sadness”…
He then finishes the piece with ‘’last long sorrowful sleep’’..
وكذا لدى مرسال زياد :
ورح يضل يعل فيكي
هالزهق اللجوج
هالضجر الطويل
قدر ما سهرتي وتسليتي والتهيتي رح تفشلي
كلاهما تركا ترجمة النهاية احتمالية مفتوحة بين اكتمال الحلم او ربما إبقاء اليأس
***
مشهد ثاني: سنوات الحرب والطائفية
زياد في احدى برامجه الاذاعية اثناء الحرب وبطريقته في تسخير الكوميديا السوداء لتكثيف المقاومة النفسية ودحر تراكمات الاكتئاب الوطني وذهان الأفراد يقول:
انت عم تحكيني عن الزبالة الوسخة… ‘لأ، في زبالة نظيفة ومحترمة.. في زبالة بتحط “كولونيا” اذا ما معك خبر في زبالة عندها مكاتب.. في زبالة بتصوّت على مشاريع في زبالة عندها زلم.. في زبالة عندها مرافقين بيضلّوا معها لحتّى ماحدا يغتالها في زبالة عندها شوفيرية بيفضّوها محل ما هيّ بدها .. وهيّ اجمالا بتعقد ورا مكانها مزبلة التاريخ.
مشهد ثالث : 1975 مع بداية اندلاع الحرب الأهلية
“C’est un pays qu’il se suicide. Pendant qu’on l’assassine”
البلد ينتحر في حين يغتالوه – الشاعرة اللبنانية نادية التويني
brain tumour of Lebanon … A virus journey throughout the sensory territory
لبنان مصاب بفيروس دماغي، انقسام عشوائي سريع وانفعالي لخلايا الفساد، وهذا الفساد ينقسم هو الاخر ويتكاثر فتتعدد أنواعه وتتباين مناحيه. فساد بالدين, بالسياسة, بالمجتمع وألوان الطوائف. وزياد يخدع هذا الورم بأن يرخي ويشد بين وتيرة الهجوم والدفاع وبين هذا وذاك، فواصل من التهكم والسخرية مستخدماً الضحك لهدم الألم وتجريد المعاناة من قوة السلب, وجعلها فقط محطة أخرى من محطات بناء زياد.
قوم فوت نام وصير احلم انو بلدنا صار بلد
وكانت سنوات الحرب وكان التكون الموسيقي لزياد، وكان الدين وكانت المدينة…
1977 سلاح و اغتيالات
ويقوم زياد بتقديم ماجدة الرومي بمعزوفة التضرع
كيرياليسون … طوبى للساعيين
اعطني موسيقى … اعطني خبزا
***
مشهد آخر: معزوفة المعمل
استمع الى معزوفة المعمل, بالمعزوفة صوت حراك عمالي بالخلف ودندنات تعلو فتهبط فأرى وأحس ذلك المشهد اليومي من حياتي.
“فرد عابر لساعات العمل, لشردات الفكر… الفرد يعبر والبناء يستمر والصورة… صورة هذه الحياة… حياتي تكتمل, نغمة فنغمة, أحيانا دربها طويل وصارخ وأحيانا هديرها حزين وسارح, ولكن النغمة تمضي, في الواقع كلتا النغمتين يمضيا ويستمر البناء واللحن.. ان المعمل صوت هذه القصة, قصة حياة الفرد… قصتي أنا…”موسيقى زياد ليست خطية النمو وغير قابلة للرصد والتحجيم، موسيقاه تنمو بصورة معقدة. فلو كان بلبنان أورام دماغية يتكاثف فيها الضغط، فموسيقى زياد ترجمة حسية لحراك المقاومة الدائر في دماغ لبنان.
موسيقى زياد هي حراك النبش والتمسك بقوى المكون
(sensory interpretation) ، هي تجريد للمقاومة عبر الذاكرة واللغة، والتجدد هو حال الموسيقى والقابلية للثورة والخلاص من أقوى سماتها.
خلايا الورَم الدماغي كبيرة القابلية للتحسن والتغير، وموسيقى زياد كبيرة في الأمل ورؤى انصلاح الحال. الموسيقى هي العلاج لحرب الأعصاب, للشك والانفعال والاستهتار، وبموسيقى زياد رصد الواقع وتعابير اللغة عن انسياب الطبيعة واختلافات السلوك.
معزوفة عطل و ضرر
***
استمع الى مدخل هذه المعزوفة ينفجر فيها اللحن في البدء بقوة فأرى من خلال عطل وضرر ذاكرة كل عطب نما بدماغي معلنا في بوادره كوارثا وبعثرة أمنية ولكن تتبلور الأحداث, تمر بوقفات للمعالجة والاستيعاب وشيئا فشيئا يهدأ اللحن ويهدأ الضرر ويتوارى ذلك الجنون الذي صوره القلق كحالة ثابتة ودوام مميت ولكنه يمضي ويخفت, بل ينساب اليه بعض السرور والضحكات, ولربما هذا ما أراد زياد أن يعكسه, أن كل عطل وضرر يمكن تناوله بل وتحويره واضفاء التعديلات اليه,كل عطل وضرر هو ألم وحلم ونمو..
أرى أن كل لحن لزياد يحمل طبقات من المشاكل والأمنيات، طموحات وتعقيدات نفسية تتقاطع مع النسيج الاجتماعي للبنان, وتكون من ذلك دستورا ومنهاجا للتعبير الموسيقي عن الأضرار النفسية وانفلاتات الجنون وارتباط ذلك بالأحداث في تاريخ البشر السياسي. كانت موسيقى زياد النقد والبناء عبر التاريخ بثورية الجاز ورصانة الموروث الموسيقي شرقا وغرباً.
Layers of aspirations and psychological connotations with the social fabric of Lebanon, his music constituted a framework for musical expression of mental health damages, historical and political arguments through revolutionary jazz combined with a heritage of Arabic symphonies.
كانت موسيقاه
حلمان الأول للبلد و الثاني للحب
أنا عم بفكر إبقى أنا ويّاك ليك ليه عم تعمل هيكوأنا عم بفكر حبك وينك ليك هيك.. هيك بتعمل هيك
انصلاح حال البلد حلم نحن قادرين على تكوينه, أما الحرب فلابد لها من نهاية وهدنة سلام, وعبر تاريخ المكان والزمان كل أحوال الأعصاب لنا بها من خلاص وفكاك وأحيانا تعايش. أما فيما يتعلق بالحب فلا أعرف دربا واضحا للثبات أو للتخلي وتأميم المشاعر لدحر الأذى.
اسأل هنا سؤال زياد:
يا عواطف حاجة تتلوي صعبة العيشة هيك

روان حسن الزين
مواليد 1998 الخرطوم، باحثة اجتماعية لها خلفية في الجغرافيا البشرية والأخلاق البيئية ، تعمل في التنمية المجتمعية منذ 2014 ، مهتمة في حل عيوب إزالة التثبيط الثقافي من خلال كتاباتها. لديها خبرة عملية واسعة في التقدم المدني وقضايا النوع الاجتماعي ، هي من عشاق الفن حيث قامت في عام 2019 بتوثيق مذكرات عن المتاحف والتأثير الثقافي العصبي للفن عبر المتاحف في أوروبا وكينيا والسودان.
تعمل الآن على توثيق أنماط السلوك الاجتماعي في المجتمعات المحلية من منظور أنثوي.
تم تأليف الألحان الموسيقية المرفقة في الفيديو بواسطة أشرف إبراهيم، موسيقار سوداني يعمل علي إضافة لمسات حديثة للأغنيات العربية الكلاسيكية بلمسة سودانية.
References:
The leftist, the liberal and the space in between, Ziad Rahbani and everyday ideology by Sune Haugbolle
Ziad and the liberal subject by Sune Haugbolle
Harvard scholar on Berlioz’s third movement
Leave a Reply